عبد القادر الكاملي.. يكتب / بزوغ فجر الطب التجديدي
عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
في عام 2003 أعلن رجل الأعمال والمفكر الأمريكي المستقبلي ديفد غوبيل، والعالم البريطاني المتخصص في أبحاث الجينات ومعالجة الشيخوخة أوبري دي غراي، عن إطلاق مؤسسة متخصصة في الطب التجديدي وأبحاث إطالة العمر وعكس عملية التقدم في السن، أطلقا عليها اسم مؤسسة متوشلخ (www.mfoundation.org). ومتوشلخ أو مَتُوشَالَحُ كما ورد في سفر التكوين (العهد القديم) هو جدّ النبي نوح، وتوفي عن عمر يناهز 969 عاماً، قبل سبعة أيام من بداية الطوفان العظيم. يتمثل شعار المؤسسة في “جعل عمر التسعين بحلول عام 2030 مثل عمر الخمسين اليوم”. تعتقد المؤسسة أن مستقبل الرعاية الصحية يرتبط بتقدم الطب التجديدي (Regenerative Medicine) الذي يعد بتوفير علاجات جينية فعالة لكل شيء من أمراض القلب إلى السرطانات إلى السكري، والتوصل بذلك إلى تمديد الحياة الصحية للبشر.
وفي عام 2011 قال أوبري دي غراي أن “أول إنسان سيعمّر حتى 150 سنة سبق له أن رأي النور”. وحمل غلاف عدد 23” فبراير- 2 مارس 2015″ من مجلة تايم الأمريكية صورة طفل صغير وبجانبه العنوان: “يمكن لهذا الطفل أن يعيش حتى يبلغ من العمر 142 عاما”. السؤال هو: هل حقق التقدم العلمي هذه التوقعات الحالمة؟
على الرغم من البطء النسبي، تحقق تقدم ملموس في خمسة مسارات مرتبطة بالطب التجديدي الواعد بحياة أطول، هي:
برنامج ألفافولد (AlphaFold)
بعد أن طورت شركة ديبمايند (DeepMind) المملوكة لغوغل والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي، برنامج “ألفا غو” الذي تمكن من الانتصار على بطل العالم في أكثر الألعاب العقلية تعقيداً وهي لعبة “غو” عام 2016، انتقلت إلى تطوير برنامج “ألفا فولد” لفهم آليات طيّ البروتين. يعد البروتين أهم مكونات الأجسام الحية، بتشكيلاته المذهلة عدداً وتنوعاً، من الأحماض الأمينية، إلى جسم له شكل محدد، يضم مختلف الالتواءات والانحناءات التي تلزمه لأداء وظيفته في الخلية، ومن الأهمية بمكان فك أسرار هذه التشكيلات سواءً للطب أو الاقتصاد. يحوّل البروتين نفسه داخل أجسامنا من سلسلة طويلة مرنة وناعمة وهي عملية يطلق عليها طيّ البروتين (Protein Folding). حقق “ألفا فولد” نتائج واعدة برهنت أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يحل أكبر الألغاز على الإطلاق كالتنبؤ بكيفية طي البروتينات لنفسها ضمن فراغ ثلاثي الأبعاد. نجح برنامج “ألفا فولد” في توقع تركيب معظم البروتينات المعروفة والبالغة نحو 200 مليون بروتين.
يعتبر هذا الإنجاز، الذي ما كان ليتم بدون الذكاء الاصطناعي، مهماً جداً لأن البروتينات هي لبنات بناء جميع أشكال الحياة. وبفضل المعلومات التي يتم ترميزها في جيناتنا، فإن جسم الإنسان قادر على إنتاج آلاف عديدة من أنواع مختلفة من البروتينات، لكل منها مجموعة متنوعة من الوظائف تتراوح بين الهضم والاستجابات المناعية وتقلص العضلات.
استخدم فريق تطوير برنامج “ألفا فولد” شبكات عصبية عميقة تم تدريبها على بيانات من آلاف تشكيلات طي البروتين المعروفة. وفي حين استغرق برنامج “ألفا فولد” حوالي أسبوعين للتنبؤ بهياكل البروتينات الأولى، فإنه أصبح قادراً الآن على حساب النتائج في غضون ساعات فقط. تعتبر هذه النتائج ضرورية لفهم وظائف البروتينات وتفاعلاتها في الجسم، ومن ثم استخدامها لتصميم الأدوية، وتوجيه الأبحاث العلمية في العديد من المجالات.
تحويل الخلايا الجسدية إلى خلايا جذعية كثيرة القدرة (iPSCs)
نال الياباني شينيا ياماناكا والبريطاني جون غوردون جائزة نوبل للطب لعام 2012، لاكتشافهما أن الخلايا الناضجة يمكن إعادة برمجتها لتصبح خلايا جذعية جنينية، وذلك بإضافة أربعة بروتينات أطلق عليها عوامل يامانكا. يمكن للخلايا الجذعية كثيرة القدرة التضاعف والتحول إلى أي نوع من أنواع الخلايا، كالخلايا العصبية أو العظمية أو خلايا القلب أو الكبد، إلخ، ما يجعلها شديدة الأهمية في مجال الطب التجديدي، إذ يمكن استخدامها كبديل للخلايا المريضة أو التالفة، أو الشائخة.
أكدت التجارب العديدة التي أجريت على الفئران، لإعادة برمجة خلاياها المسنة، ظهور علامات الشباب عليها من جديد. غير أن التجارب المماثلة على البشر لا تزال تعترضها العديد من الصعوبات يحاول العلماء تذليلها حالياً، للحصول على موافقات الجهات الرسمية على تجربتها سريرياً.
تقنية كريسبر (CRISPR) لتعديل الجينات
في القمة الدولية الثالثة لتحرير الجينوم البشري التي عقدت في لندن في شهر مارس/آذار الماضي، صعدت فيكتوريا جراي التي تبلغ من العمر 37 عاماً، خشبة المسرح لتخبر المجتمعين كيف خلصها العلاج الجيني التجريبي بتقنية كريسبر من داء الخلايا المنجلية (Sickle cell) الذي عطل طفولتها ومراهقتها وشبابها بنوبات ألم شديدة كانت تتركها في المستشفى لشهور في كل مرة.
يرى بعض العلماء أن تقنية كريسبر-كاس9، هي أهم اختراق علمي في مجال التكنولوجيا الحيوية خلال الخمسين سنة الماضية، كونها تمثل نقطة انعطاف في العلاجات الطبية من أدوية تحاول القضاء على المرض إلى تقنيات تعيد برمجة الخلايا المناعية بحيث تقضي على المرض ذاتياً، بل ويمكنها نظرياً أن تعدًل مواصفات الجنين الجينية، وتعيد خلايا البالغين الشائخة إلى صباها بما يطيل عمر الإنسان.
ظهرت المعلومات الأولية عن تسلسلات الحمض النووي الريبوزي المعروف باسم كريسبر عام 2002، ثم ظهرت المعلومات المرتبطة بتقنية كريسبر-كاس9 لتحرير الجينات، عام 2005. استخدمت هذه التقنية لتعديل جينات النباتات والحيوانات، غير أن أولى الدراسات السريرية البشرية باستخدام تقنية كريسبر-كاس9 بدأت في أكتوبر 2016 في الصين.
سمحت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية منذ عدة أعوام بإجراء بعض التجارب السريرية على البشر باستخدام تقنية كريسبر، ومنحت حديثاً الموافقة على الاستمرار في تجربة العلاجين اللذين طورتهما فيرتكس (Vertex) وشريكتها كريسبر (CRISPR) وكلاهما يرتكز على استخدام تقنية كريسبر-كاس9 لتحرير الجينات. العلاج الأول يتعلق بفقر الدم المنجلي (SCD) ومنحته إدارة الغذاء والدواء حالة المراجعة ذات الأولوية وحددت تاريخ قرار الموافقة عليه في 8 ديسمبر/كانون الأول هذا العام. فيما أعلنت إدارة الغذاء والدواء أن نتائج مراجعتها القياسية لعلاج مرض الثلاسيميا بيتا، المعتمد على نقل الدم (TDT) ستصدر في 30 مارس/آدار 2024. ويمثل كلا العلاجين نفطة انعطاف ثورية في تاريخ علاج هذين المرضين. وتجدر الإشارة إلى أنه تم حتى الآن علاج أكثر من 200 شخص بعلاجات كريسبر التجريبية.
كار-تي (CAR-T) -التشخيص والعلاج بالخلايا اللمفاوية المعدلة جينياً
تقوم تقنية كار-تي العلاجية على سحب الخلايا المناعية التائية (T-Cell) وإجراء تعديل جيني عليها ثم إعادتها إلى جسم الإنسان كي تبحث وتكتشف العلامات السرطانية على الخلايا البائية (B-Cell) التي تنتج أجسام مضادة للأجسام الغريبة التي تدخل الجسم، ومن ثم مهاجمتها وتدميرها. وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عام 2017 رسمياً على استخدام هذه التقنية لعلاج سرطان الدم “اللوكيميا” وسرطان الغدد الليمفاوية. أول من طور هذه الطريقة في العلاج كانت مدرسة الطب بجامعة بنسلفانيا.
مثبطات نقاط التفتيش المناعية (Immune Checkpoint Inhibitors)
يمكن للخلايا السرطانية الاختباء بحيث لا تراها نقاط التفتيش، الموجودة على الخلايا التائية في الجهاز المناعي، كخلايا غريبة، وبالتالي لا يهاجمها الجهاز المناعي. تثبيط عمل نقاط التفتيش هذه، يسمح لجهاز المناعة بمهاجمة الخلايا السرطانية وتدميرها. بدأ استخدام هذه التقنية لمعالجة أنواع عديدة من السرطانات كسرطان الثدي والمثانة، وعنق الرحم، والقولون، والكبد، والجلد، والمعدة، والمستقيم، وغيرها. وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على استخدام العديد من الأدوية المثبطة لنقاط التفتيش المناعية، لعلاج بعض الحالات المرضية.
وإلى أن تنضج العلاجات الجينية وتنخفض تكاليفها، ينصحكم عالم الوراثة الأسترالي ديفيد سنكلير باتباع نظام حياتي مكون من أربعة عناصر، هي:
1- المكملات الغذائية وخاصة كوب أو كوبين يومياً من شاي الماتشا وهو بودرة من نوع معين من الشاي الأخضر، يتم وضعها في الماء الساخن وشربها.
2- الصيام المتقطع أي تناول الطعام خلال عدد قليل من الساعات (8 ساعات على الأكثر) والصيام باقي اليوم.
3- تقليل الاجهاد النفسي والعصبي بتقليل التوتر وتجنب النرفزات العصبية.
4- القيام بتمارين رياضية مجهدة قليلاً (كرفع الأثقال)، والتمارين التي تقطع الأنفاس، والتعرض إلى درجات حرارة متباينة، منخفضة ومرتفعة. ويوصي سنكلير بممارسة التمارين الرياضية ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل، وينصح بتقليل فترات الجلوس، والتعود على العمل واقفاً بالارتكاز على مسند ذو ارتفاع مناسب.
يقول سنكلير: ” نعتقد أن هذه الإجراءات ستوصلنا إلى 100 أو 122 عاماً. هذا هو عمرنا الطبيعي”. ويضيف: “20 بالمئة فقط من طول العمر لدينا يتعلق بالوراثة، والباقي هو ما نفعله، كيف نعيش حياتنا، وماهي المواد التي ندخلها إلى أجسامنا”.